مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026.. بين طموح النمو وضبط التوازنات المالية

إعــداد: نجمــة نت
تأتي ميزانية الدولة لسنة 2026 في ظرف اقتصادي داخلي ودولي معقّد، تطبعه التحديات المالية وتذبذب أسواق الطاقة وتنامي الضغوط الاجتماعية.
ورغم هذا السياق الصعب، تسعى الحكومة الجزائرية من خلال مشروع قانون المالية الجديد إلى الموازنة بين الاستقرار المالي والحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة، في إطار رؤية إصلاحية تسعى لتجديد نموذج النمو الوطني وتخفيف التبعية لموارد النفط والغاز.
المشروع ليس مجرد جداول أرقام، بل يعكس تحولًا في فلسفة التسيير العمومي، من منطق “الصرف الاجتماعي الواسع” إلى منطق “الإنفاق الموجّه القائم على الأداء”، مع سعيٍ لتثبيت ركائز الحوكمة والرقمنة في إدارة المالية العامة.
توازن صعب بين النمو والاستدامة
تسير الجزائر في السنوات الأخيرة نحو استرجاع هوامش مناورتها المالية بعد الضغوط التي عرفتها خلال العقد الماضي بسبب تقلبات أسعار الطاقة.
غير أنّ سنة 2026 تحمل خصوصية واضحة: فهي تأتي في منتصف دورة إصلاحات اقتصادية كبرى شملت الجباية، الإنفاق العام، وآليات الدعم، وكلها محاولات لإعادة بناء هيكل الاقتصاد على أسس إنتاجية.
في ظل هذه الإصلاحات، حددت الحكومة أولوياتها على ثلاث جبهات:
-
تعزيز النمو الاقتصادي الحقيقي عبر تحفيز القطاعات المنتجة (الفلاحة، الصناعة، الخدمات).
-
مواصلة الدعم الاجتماعي الموجّه لتفادي أي اضطراب اجتماعي محتمل.
-
ضمان التوازنات الكبرى للمالية العامة من خلال التحكم في النفقات وتحسين التحصيل الجبائي.
وبذلك تسعى الدولة إلى تحقيق معادلة دقيقة بين الحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة وإرساء قواعد الانضباط المالي، وهي معادلة تحتاج إلى قدر كبير من الحكمة والتدرّج.
المؤشرات الكبرى – بين واقعية الأرقام وحذر التوقعات
اعتمدت الحكومة في إعداد ميزانية 2026 سعرًا مرجعيًا للنفط عند 60 دولارًا للبرميل وسعرًا متوقعًا في السوق بـ70 دولارًا، وهي تقديرات واقعية تهدف إلى تأمين استقرار المداخيل في مواجهة التقلبات العالمية.
أما معدل النمو الاقتصادي، فقد قُدّر بـ 4.1% سنة 2026، مدفوعًا أساسًا بالقطاعات غير النفطية التي يُعوّل عليها لتعزيز استقلالية الاقتصاد الوطني.
وتشير التقديرات إلى:
-
نفقات عامة بـ17.636,7 مليار دينار.
-
إيرادات كلية بـ8.009 مليار دينار.
-
كتلة أجور تُقدّر بـ5.926 مليار دينار، أي ما يقارب ثلث الإنفاق العام.
-
مخصصات للدعم الاجتماعي بنحو 2.812 مليار دينار، تشمل المواد الأساسية، منحة البطالة، والتقاعد.
هذه الأرقام تعبّر عن استمرار الطابع الاجتماعي للسياسة المالية الجزائرية، رغم توجّه الحكومة نحو إصلاح الدعم وتحويله تدريجيًا إلى دعم موجه للفئات المستحقة عبر الرقمنة وتحديد القوائم بدقة.
فلسفة الإنفاق – من الكمية إلى النوعية
تسعى ميزانية 2026 إلى الانتقال من المنطق الكمي في توزيع الاعتمادات إلى منطق الكفاءة والنتائج.
ولأول مرة، تتحدث الحكومة صراحة عن إدراج مؤشرات أداء كمية ونوعية لقياس مدى فعالية الإنفاق العمومي، خاصة في القطاعات ذات الطابع الاجتماعي.
فقد وُجهت النفقات نحو القطاعات المنتجة والمحفزة للنمو مثل الصناعة، الفلاحة، الطاقات المتجددة، والتعليم التقني، مع تركيز موازٍ على البنى التحتية والنقل كدعامة لوجستية أساسية.
في المقابل، تعمل وزارة المالية على تحسين تسيير الموارد الجبائية عبر إدخال نظام رقمي موحّد، ومحاربة التهرب الجبائي، وتوسيع الوعاء الضريبي دون المساس بالقدرة الشرائية للمواطن.
القطاعات في صدارة الأولويات
🏥 الصحة: من الطوارئ إلى إصلاح المنظومة
القطاع الصحي يستحوذ على حصة معتبرة من الميزانية، موجهة لتجديد البنى التحتية وتحسين الخدمات العلاجية، إضافة إلى تسريع عملية الرقمنة الطبية وتوسيع التغطية في المناطق الريفية.
🎓 التربية والتعليم العالي: استثمار استراتيجي
التعليم بمستوياته كافة ما يزال من أكبر المستفيدين من الإنفاق العمومي.
المخصصات تهدف إلى تحسين ظروف التمدرس، دعم النقل والإطعام، وتطوير البرامج التعليمية، إلى جانب ربط الجامعة بالاقتصاد الوطني من خلال مشاريع بحث تطبيقية وشراكات مع القطاع الصناعي.
⚙️ الصناعة والطاقة: تنويع القاعدة الإنتاجية
تواصل الحكومة دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحفيز الاستثمار في الصناعات التحويلية والطاقة النظيفة.
كما يتم التركيز على تسريع التحول الطاقوي وتطوير الطاقات المتجددة لتقليص الضغط على المحروقات.
🌾 الفلاحة: الأمن الغذائي كأولوية وطنية
تعتبر الفلاحة أحد أعمدة النمو المستقبلية، حيث تعمل الدولة على دعم الزراعات الاستراتيجية، وتحسين منظومة التسويق، وتسهيل التمويل الفلاحي، بما يساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي.
🚧 الأشغال العمومية والنقل: بنية تحتية للنمو
الاستثمار في الطرق، الموانئ، والمطارات ما يزال محورًا رئيسيًا، بهدف جعل الجزائر مركزًا لوجستيًا إقليميًا في شمال إفريقيا.
كما يجري التركيز على الصيانة الدورية بدل الإنفاق المفرط على المشاريع الجديدة، ترشيدًا للنفقات وتحسينًا للفعالية.
الإصلاح المالي – رقمنة وتحوّل في الحوكمة
تُعد الرقمنة المالية من أبرز رهانات الحكومة في 2026، إذ تسعى وزارة المالية إلى تحديث نظام الجباية والمحاسبة العمومية، وتعميم الدفع الإلكتروني في المؤسسات العمومية.
هذه الخطوات، إلى جانب توحيد قواعد البيانات الجبائية والجمركية، تهدف إلى:
-
تسريع وتيرة التحصيل.
-
تقليص الفساد الإداري.
-
تحسين الشفافية في تنفيذ الميزانية.
كما يتواصل العمل على تفعيل الميزانية الموجهة نحو النتائج بدل الميزانية التقليدية، بما يسمح بتقييم الأداء الفعلي لكل قطاع، وتحقيق النجاعة الاقتصادية في استخدام المال العام.
قراءة في التوازنات – الإصلاح المتدرج كخيار استراتيجي
تُظهر ميزانية 2026 أنّ الحكومة تتبنى سياسة إصلاح متدرج ومحسوب، لا تقوم على الصدمات المالية، بل على إصلاح تدريجي يراعي البعد الاجتماعي.
ففي الوقت الذي تواصل فيه الدولة دعم الفئات الهشة، فإنها تعمل على توجيه الدعم إلى مستحقيه فعليًا عبر آليات رقابية رقمية، ما يضع الأسس لنظام دعم أكثر عدالة وفعالية.
من جهة أخرى، فإنّ ضبط كتلة الأجور مع الحفاظ على التحفيزات في القطاعات الحيوية، يمثل إشارة إلى حذر مالي مدروس يروم استدامة الموارد دون الإضرار بالاستقرار الاجتماعي.
تحديات أمام التنفيذ
رغم الطابع الإصلاحي الواضح للمشروع، إلا أنّ تطبيقه يواجه تحديات عملية حقيقية:
-
الحاجة إلى تنسيق محكم بين الوزارات في تنفيذ البرامج.
-
ضعف اللامركزية في تسيير المشاريع المحلية.
-
استمرار بعض مظاهر البيروقراطية التي تعيق نجاعة الإنفاق.
-
صعوبة ضبط السوق الموازية التي تُضعف المداخيل الجبائية.
غير أنّ نجاح هذه الميزانية يعتمد على القدرة السياسية والإدارية على تحويل التوجهات الورقية إلى نتائج ملموسة في الميدان.
نحو نموذج مالي جديد
إنّ مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026 يعكس تحوّلًا تدريجيًا في التفكير المالي للدولة الجزائرية، من مجرد إدارة للموارد إلى تخطيط اقتصادي قائم على النتائج والنجاعة.
ورغم التحفظ في تقديرات النمو والإيرادات، إلا أن المقاربة الواقعية التي اعتمدتها الحكومة تمنح المشروع مصداقية مالية واستقرارًا مؤسساتيًا.
في النهاية، تبدو ميزانية 2026 ميزانية توازن بين الطموح والتحفّظ، بين الرغبة في تحقيق نمو متسارع والحاجة إلى حماية الاستقرار المالي والاجتماعي.
وإذا نجحت الحكومة في تنفيذ التوجهات المعلنة، فإنّ الجزائر ستقترب أكثر من بناء نموذج اقتصادي إنتاجي ومستقلّ، قادر على تأمين المستقبل في ظل عالم متحوّل ومتقلب.
تقرير عن مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026




